دوافع الإنخراط في تخصص تحكمه عوامل عدة، فالمفترض أن يتخصص الإنسان في المجال الذي يتسق واستعداداته وميوله وقدراته. وموضوع التوجيه والإرشاد التربوي مازال يحبو والحديث عنه حديث ذو شجون ربما يحتاج لإبحار خاص. هنا سأسجل بإختزال رحلتي "الشخصية" مع "علم النفس".
لقد إكتشفت منذ بواكير الطفولة نزعتي لتفسير سلوك الناس المحيطين بي، وكنت دائما في مجلس والدي -يرحمه الله- أحاول -بمفردات بسيطة وبريئة- تفسير سلوك كل من يلج المجلس، وكان الوالد يرحمه الله لا يخفي تعجبه من (لقافة طفله) وتارة يبدي فخره وتتضح على ملامحه علامات الحبور.
فحين أقول له مثلا (إن فلان يبدو من حديثه إنه يبالغ حبتين) وأن صديقك فلان يبدو أنه يمر بضائقة نفسية (فيه شي مضيق خلقه) وأن فلان (حساس) وأن العم الفلاني (متسامح) أو بتعبيري الطفولي (يا حليله ما يزعل)....وهكذا.
في المدرسة لم يسلم مدرس أو زميل من" تشريح نفسي" على مستوى تفكيري في المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة. حين كنت في الأول متوسط كانت شقيقتي تدرس مقرر"مباديء علم النفس" في الصف الثاني ثانوي أدبي. فكنت "ألطش" كتابها وأقرأه بنهم...وكم غضبت مني حين تفتقده.
وبدأت قراءاتي البسيطة في كل ما يقع تحت يدي حول علم النفس، وكان السؤال الذي يحيرني "لماذا يسلك الناس بالطريقة التي يسلكون بها؟" لأكتشف مؤخرا أن علم النفس أسس للإجابة على هذا السؤال.
حيث أن الظاهرة التي يتناولها كحقل معرفي هي ظاهرة "السلوك" بشقيه (الداخلي) كالإنفعالات والتفكير والتخيل و(الخارجي) النزوعي كالحركات ولغة الجسد ولغة العيون وتعابير الوجه وغيرها.
تخصصت بالثانوية (أدبي) وغضبت حين حصلت على 34 من 35 وجادلت الأستاذ حول الدرجة.
كل هذا التاريخ كان من المفترض أن يقودني إلى دراسة علم النفس بلا تردد، ولكوني قد حصلت على تقدير (إمتياز) في الثانوية العامة ولأن قسم علم النفس آنذاك يقبل من هم حاصلون على تقدير مقبول، فقد أوهمت نفسي أن كلية العلوم الإدارية التي تتطلب معدلات عالية هي التي تليق بمن هو حاصل على إمتياز (وهنا مرة أخرى غياب التوجيه والإرشاد التربوي الصحيح) فسجلت في العلوم الإدارية لمدة فصل كان من أسوأ خبرات حياتي، وحولت في الفصل الثاني لعلم النفس.
أتذكر ثورة الأهل أن كيف تترك (العلوم الإدارية) ذات البريق الإجتماعي حيث دراسة الإقتصاد والقانون والعلوم السياسية وتتجه لعلم النفس ...علم المجانين حيث لا مستقبل لك إلا في مستشفى شهار في الطائف (أقدم مستشفى للصحة النفسية في المملكة)...فرددت عليهم ببيت شعر يتيم لم أستطع إكمال غيره حتى الساعة فقلت:
يا قوم نفسي لعلم النفس عاشقة..هيهات أن ترتوي من حوض ما عشقت
وهو تصرف مني (كشويعر) للبيت المشهور:
يا قوم أذني لبعض الحي صاغية....والأذن تعشق قبل العين أحيانا.
وأكملت مشواري بحمد الله وحصلت على الترتيب الأول في الفصل الذي تخرجت فيه، وعينت على الفور معيدا ثم إبتعثت إلى كندا حيث أنهيت الماجستير من جامعة أوتاوا ومن ثم ذهبت لبريطانيا حيث أنهيت الدكتوراه من جامعة مانشستر. لأعود عضو هيئة تدريس بقسم علم النفس في جامعة الملك سعود في الرياض.
ورُغم خوضي تجربة التحليل النفسي لمدة 1244 ساعة ولمدة خمس سنوات متواصلة بمعدل ساعة ونصف يوميا مع مدرب تحليل نفسي (خارج إطار الدراسة الأكاديمية)، ورغم مشاهدتي لآلاف الحالات ورُغم تأليفي لكتب في المجال وبحوث عدة إلا أنني وبأمانة لا زلت أردد (هيهات أن ترتوي من حوض ما عشقت)!. فحين تكون علاقة الإنسان مع تخصصه علاقة "عشق" كحالتي فهذه من أكبر النعم التي يجب أن يشكر الله عليها، لا سيما ونحن مطالبون بالتأمل في النفس حيث يقول الحق سبحانه (وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟). وقديما قيل (من عرف نفسه، عرف ربه).
أرجو أن يكون إبحاري "الشخصي" قد راق لكم.
تحياتي.
الأستاذ الدكتور سلطان بن موسى العويضة
استشاري العلاج و الإرشاد النفسي و الأستاذ بجامعة الملك سعود .