موضوع القرار أو اتخاذ القرار في الحياة أمر مهم جدا. أولا لأننا معرّضون له في كل لحظة: هل أشتري هذا الشيء أم لا، هل أغيّر نوعية وطبيعة عملي؟ هل أختار الحياة الزوجية أم لا؟ أي نوع من الدراسة أو المهنة أ :ختار؟ الخ. موضوع الاختيار إذن موضوع مطروح على كل إنسان وباستمرار ولا يمكننا القول بأن هذه العملية قد تنتهي يوما. لأنه ضمن القرارات التي تُتّخذ هناك قرارات داخلها لابد من التفكير حولها ( ضمن الحياة الزوجية القرارات أو إمكانية القرارات مطروحة دائما سواء بخصوص الأطفال « في أي مدرسة أسجل ابني. أية لغة نعلّمه الخ » أو بخصوص الزوجين وحياتهما الزوجية والمهنية والاجتماعية ). بشكل عام تؤخذ هذه القرارات بسرعة هائلة. والإنسان الناجح، إن صح التعبير، هو الذي يعطي لكل من هذه القرارات حقّها مهما كانت بسيطة ظاهريا. بشكل عام لا نعطي قراراتنا حتى الهامة منها ما تستحق من الوقت ومن الوسائل بشكل خاص.
كل قرار نتخذه مهما يكن من قرار يشكل مسؤولية شخصية ( هذا القرار قراري أنا). في الكثير من الأحيان نهرب من المسؤولية ونسعى للبحث عن أحد ما ليتخذ القرار مكاننا. لا أقصد بذلك الاستشارة التي لها أهميتها وسوف أتكلم عنها لاحقا ، إنما ما نلاحظه كثيراً هو هذا السعي لدفع الآخر لكي يأخذ القرار مكاننا ( شو رأيك شو لازم اعمل!!!.)
أن يطلب الإنسان استشارة آخر على إطلاع في مجال ما أو لديه خبرة كبيرة هذا أمر طبيعي وضروري، لابل يمكننا القول بأن عدم الاستشارة هو أمر غير مُحبذ، لأن ما من أحد عالم بكل الأمور. هذا النوع من القرارات التي ندعوها بالقرارات اليومية تتطلب دون شك التمييز: علينا التمييز بين الهدف والوسيلة والحرص على عدم خلطهما ببعض.
كل القرارات التي نأخذها ونعتبرها للأسف على أنها أهداف «دراسة، مهنة، زواج، حياة مكرّسة الخ»، هي في النهاية وسائل يُفترض أن تساعدنا للتقدم باتجاه الهدف. هذا الأخير هو من مجال المعنى والمعنى لا يمكن تحقيقه تماماً، السعادة مثلاً لا يمكننا الادعاء بلوغ كمال السعادة. بطريقة شبه أوتوماتيكية نأخذ الوسيلة على أنها هدف وهذا يجعل من قراراتنا غير صحيحة وتفتح باب الروتين لاحقاً على مصراعيه.
قبل كل شيء لابد من أخذ البعد اللازم: التوقف عن صخب الحياة اليومية والعادات التي أنا مأخوذ بها وبشكل خاص الامتناع عن الأحكام المسبقة. هذا التوقف أو الامتناع مهما كان قصيرا، يسمح لعملية الاختيار أن تبدء ولعميلة التمييز والقرار أن تتم.
ليست كل العادات سيئة. فالعادات الجيدة المبنية على المبادئ التي أعطيت في الطفولة ولها ايجابياتها، فهي تسهل عملية الاختيار وتسمح بعدم الإكثار من التساؤلات أثناء عملية اتخاذ القرار. كذلك الأمر بالنسبة للمبادئ الأساسية في الحياة والأحكام المسبقة. ولكن بإمكانها أن تؤدي الى شيء من الانغلاق على الذات باسم الفعالية وتنسينا بأن الإنسان هو كائن يوجد من خلال العلاقات ولا يمكنه تحقيق ذاته دون الآخر. وكما يقول أحدهم وهو على فراش الموت: لو أعطي لي أن أبداء بالحياة مجددا لركزت على الصداقة.
أول خطوة في التمييز بخصوص القرارات «اليومية» تكمن في أن أضع بين قوسين كل ما أعتبره على أنه يقين. قد يحدث طارئ ما يلزمني على القيام بذلك، ولكن في حالة التمييز لا بد من القيام بهذه المبادرة بحرية، إذا أردت أن أحقق تمييزا سليما.
فالسؤال إذن هو التالي: ما هو المقصود بالنسبة لي؟ لماذا أريد أن أتصرف بهذه الطريقة؟ لماذا أفضل هذا القرار عن غيره؟ هنا لابد من تدخل «التناوبية» أي عليَّ أن آخذ بعين الاعتبار البديل عن قراري إذ لا يمكنني أن أمارس الاختيار دون وجود عدد من الإمكانيات. بهذا المعنى نقول بأن كل اختيار هو أيضاً نفي لأنه في اللحظة التي أختار فيها شيء ما أتخلى عن شيء آخر. إذا لم أقبل هذا أو ذاك الالتزام أو المسؤولية أو العمل سيكون لدي الوقت الكافي واللازم لأكون مع أولادي. أن أكون بالقرب من هذا الإنسان المحتاج اليّ قد يمنعني من إتمام عملي والقيام بواجبي. فالتناوبية تخفف من أهمية الوسائل لتضعها في مكانها المناسب.
هذا الأمر يساعد أيضا في توضيح القصد أو الهدف بالمعنى الذي تكلمنا عنه. إنه «يتجاوز» الإمكانيات. إنه من مستوى «الأكثر». فالإنسان هو من مجال الأكثر، ولهذا السبب لا يكتفي أبداً يريد دائماً المزيد. وكلنا يعلم الى أي حد تستعمل الدعايات هذه الناحية: هذا المعجون يجعل أسنانك أكثر بياضا، هذا المنتج يعطيك متعة أكبر؛ الوقت الذي تربحه، نوعية العمل الذي تحققه الخ. هنا عليَّ أن أطرح على ذاتي السؤال: إذا قبلت هذه المسؤولية، أو هذا العمل فإلى أي «أكثر» سوف يقودني بالنسبة لمستقبلي؟ وبشكل خاص: هل هذا يجيب على رغبتي الأكثر عمقا ؟
فالإنسان هو كائن ذو رغبة. وكل حياتنا هي محاولة لتحقيق رغباتنا. وهذا الأمر يدفعنا للعمل ولأخذ القرارات: الرغبة في الحياة، في البقاء، في تجاوز ذاتنا الخ. وفي كل مرة نحقق هدف ما، نبحث عن آخر، نريد الذهاب الى أبعد. هذا يعني أنه وراء هذه الرغبات التي نسعى الى تحقيقها، تكمن رغبة واحدة أساسية، هي تحقيق الذات، أن أكون ذاتي، أن أكون فعلا إنسان بكل معنى الكلمة. هذه الرغبة الأساسية لا يمكن تحقيقها بالكامل وإلا ستكون النهاية.
فالتمييز يكمن إذن، أمام العديد من الإمكانيات الحقيقية، بأن نعي أولا ماهي رغبتنا العميقة والحقيقية، ما هو السبب الحقيقي لحياتنا، أو المعنى الحقيقي لها لكي نستطيع اختيار «الوسيلة المناسبة» ( الاختيار بين الزواج والبتولية، بين هذا الإنسان والآخر ليكون شريك أو شريكة المستقبل). هذه الرغبة العميقة تثير المخيلة من خلال الصور التي يجب الاختيار بينها. فهناك أولا الصور التي تنبع من «الهواميات»، نوع من المرايا التي تغلقنا في عالمنا الذاتي حيث «نرى ذاتنا في صدد التنفيذ». مثلا أرى أو أتخيّل ذاتي جيدا في هذه المسؤولية المعروضة عليّ، أو في موقف من يساعد الإنسان المحتاج الي الخ .
ولكن هناك صور أخرى رمزية، هذه الصور تخرجنا من ذواتنا وتدفعنا نحو الآخر من خلال رغبة تتعمق أكثر فأكثر. مثلا يمكن أن نرى ذاتنا في «العليقة المتقدة» أو نساعد الآخرين على التحرر ممّا يسلب لهم حريتهم الشخصية، أو في «عرس قانا الجليل» إذا أردنا أن نجمّل أعيادنا. تبقى الصورة الرمزية هي الصورة الحقيقية والتي لا تدفعنا الى التقليد، ولا تتركنا مرتاحين في إرضاءاتنا الشخصية، إنما تطرح علينا التساؤلات أو تضعنا موضع تساؤل، فتدفع بنا نحو علاقات جديدة، نحو «الأكثر»، تدفعنا الى الخروج من ذاتنا، وتجعلنا نعيش في بداية مستمرة .
فالاختيارات والقرارات اليومية تأخذ آنذاك معناها : إنها وسائل تسعى لتحقيق رغبتنا الحقيقية والعميقة. بعد اتخاذ القرار، لابد من مراقبة الذات، الشعور الداخلي العميق. فإذا كنت أعيش هذا القرار « بغصة قلب» أو بعد راحة، إذا كان هذا القرار يغلقني على ذاتي فهذا يعني أن هناك خطأ في القرار وأن التمييز لم يكن جيدا. وإذا كان العكس فهذا يعني أن التمييز كان ناجحاً وأنني اتخذت القرار المناسب. هذه الفترة بين اتخاذ القرار مع المراقبة الذاتية تسمى تثبيت القرار وهي في غاية الأهمية. في الحالات الأكثر أهمية، الاستعداد للتحدث عن القرار مع الآخرين، يعتبر مقياس مهم للغاية .
أما بالنسبة للقرارات المهمة والحاسمة كالزواج واختيار المهنة فالموضوع يختلف بعض الشيء ولكن بشكل مهم في نفس الوقت. بشكل عام يظهر الموضوع على النحو التالي : هناك غياب المراجع : لا أدري أين أنا من الأمور بشكل عام؛ وفي الوقت نفسه لديّ رغبة قوية وأريد الخروج من هذه الحالة، لا أريد البقاء على هذه الحالة. وأخيراً أشعر بعجز كبير في تبصر المستقبل، فأنا لا أعلم ماذا أفعل.
القاعدة الذهبية الأولى والتي قد تبدو سخيفة للكثيرين، ولكنها، بنظري مهمة جدا، هي الانطلاق من المبدأ بأن الحياة تُستَحق بأن تعاش. هذه القاعدة هي أساس الرغبة وبدون الرغبة لا يمكن اتخاذ أي قرار حقيقي وسليم. والقاعدة الثانية هي : أنا يعني أنا والآخر يعني الآخر، أي الحفاظ على الاختلاف حتى لا نقع في التقليد، ( علي أن أعي بأعماقي بأنني فريد وكل إنسان هو فريد ) وبرأي مشكلة المشاكل بالنسبة لنا هي التقليد ( تقليد الآخرين). إذن عليّ أن أميّز بين الأمور. لكي أختار، لكي أتخذ قرار عليّ أن أميّز بين الأمور المتعلقة بالحالة وبالقرار الذي عليّ اتخاذه. هذا يتطلب مني الاستعلام عن كل العناصر المتعلقة بالموضوع . وغالبا نقع في الفخ : كل الأمور لها نفس القيمة لأنها كلها لا قيمة لها. ونصل آنذاك الى الموقف التالي : هذا القرار جيد لأنه يعجبني وذاك القرار سيء لأنه لا يعجبني. فتكون القرارات التي أتخذها في هذه الحالة سريعة لا أساس لها.
ثانيا انطلاقا من التصنيف والأفضليات أقف لأخذ الوقت اللازم ثم أختار ما هو أفضل بالنسبة لي وهذا يتطلب مني شيئا من العزلة والعزلة عكس الانعزالية. العزلة ضرورية جدا لكي أستطيع أن أقيّم العناصر وأختار بينها. ماذا أُفضّل، ماذا أختار، وبأي شيء يلزمني هذا القرار؟ علي أن آخذ بعين الاعتبار شخصيتي، أفضلياتي، الأمور التي أرفضها وفي النهاية أقرر. أنا الذي يقرر في النهاية. أي اعتبر ذاتي كمصدر للقرار مقتنعا بأنني أملك القوة ومتطلبات الحرية والمسؤولية. فبين عدم الرغبة في الحصول على شيء والرغبة في الحصول على كل شيء الفارق بسيط جدا. آنذاك أختار وأقرر.
كل قرار يؤخذ، يؤخذ في لحظة معينة، هي لحظة الحاضر، اللحظة التي نحللها ونحلل عواملها وأوضاعها. ولكن عندما يتم القرار سوف يوجه المستقبل، فالمشاورة والتحليل يتطلبان الأخذ بعين الاعتبار هذا المستقبل. ولكن المشاورة والتحليل تتم في نفس الوقت انطلاقا من الماضي، هذا الماضي المرسّخ في الذاكرة، في اللاوعي. وهذا المحور، محور الماضي، الحاضر والمستقبل يجب أن يجتازه الوعي الإنساني قبل أن يأخذ القرار النهائي. والماضي غنيّ بالخبرات التي لها أهميتها في اتخاذ القرار الحالي.
ولكن كيف «ينخرط» هذا القرار أو هذا الاختيار ضمن الخط المشترك لتاريخي الشخصي؟ كل تاريخ شخصي له ترابطه المنطقي، تجانسه الخاص والذي يظهر من خلال مختلف الاختيارات والقرارات التي أخذت أثناء هذا التاريخ. وكل قرار أريد اتخاذه اليوم عليه أن يدخل ضمن هذا الترابط المنطقي، ضمن هذا الانسجام أو التجانس لتاريخي الشخصي وإلا لا يمكنه أن يكون قرارا سليما، لن يكون القرار الذي من خلاله أحقق ذاتي، أحقق هذه الرغبة العميقة الموجودة بداخلي.
علينا أن لا ننسى أمرا مهما بالنسبة لاتخاذ القرارات: وجود وأهمية الآخر. كل قرار مهما يكن يلمس الإنسان الآخر بطريقة أو بأخرى. بهذا المعنى نقول أن لاوجود لقرارات محض شخصية إن صح التعبير؛ لذلك عند اتخاذي للقرار عليّ أخذ هذه الناحية على محمل الجد. وإلا فقراري هو قرار أناني، نابع من انغلاقي على ذاتي وبالتالي هو قرار فاشل.
وفي النهاية أقول بأن لاوجود لقرار كليّ وكامل لأن العوامل اللاواعية موجودة، بالإضافة الى أنني لست حرا بشكل مطلق دون أن ننسى إمكانية عدم تحقيق ما أريد وبالشكل الذي أريد لأسباب متعددة ومتنوعة لا يمكننا الخوض بها هنا(مثلاً أريد التخصص في الخارج ولا أملك الموارد الماديّة الضرورية الخ). ومن جهة أخرى أقول بأن لاوجود لقرار يُتخذ لمرة واحدة، بمعنى أنه علي دائما إعادة إخاذ القرار على ضوء التطور الذي أعيشه على الصعيد الإنساني، والنفسي والاجتماعي.
كل قرار نتخذه مهما يكن من قرار يشكل مسؤولية شخصية ( هذا القرار قراري أنا). في الكثير من الأحيان نهرب من المسؤولية ونسعى للبحث عن أحد ما ليتخذ القرار مكاننا. لا أقصد بذلك الاستشارة التي لها أهميتها وسوف أتكلم عنها لاحقا ، إنما ما نلاحظه كثيراً هو هذا السعي لدفع الآخر لكي يأخذ القرار مكاننا ( شو رأيك شو لازم اعمل!!!.)
أن يطلب الإنسان استشارة آخر على إطلاع في مجال ما أو لديه خبرة كبيرة هذا أمر طبيعي وضروري، لابل يمكننا القول بأن عدم الاستشارة هو أمر غير مُحبذ، لأن ما من أحد عالم بكل الأمور. هذا النوع من القرارات التي ندعوها بالقرارات اليومية تتطلب دون شك التمييز: علينا التمييز بين الهدف والوسيلة والحرص على عدم خلطهما ببعض.
كل القرارات التي نأخذها ونعتبرها للأسف على أنها أهداف «دراسة، مهنة، زواج، حياة مكرّسة الخ»، هي في النهاية وسائل يُفترض أن تساعدنا للتقدم باتجاه الهدف. هذا الأخير هو من مجال المعنى والمعنى لا يمكن تحقيقه تماماً، السعادة مثلاً لا يمكننا الادعاء بلوغ كمال السعادة. بطريقة شبه أوتوماتيكية نأخذ الوسيلة على أنها هدف وهذا يجعل من قراراتنا غير صحيحة وتفتح باب الروتين لاحقاً على مصراعيه.
قبل كل شيء لابد من أخذ البعد اللازم: التوقف عن صخب الحياة اليومية والعادات التي أنا مأخوذ بها وبشكل خاص الامتناع عن الأحكام المسبقة. هذا التوقف أو الامتناع مهما كان قصيرا، يسمح لعملية الاختيار أن تبدء ولعميلة التمييز والقرار أن تتم.
ليست كل العادات سيئة. فالعادات الجيدة المبنية على المبادئ التي أعطيت في الطفولة ولها ايجابياتها، فهي تسهل عملية الاختيار وتسمح بعدم الإكثار من التساؤلات أثناء عملية اتخاذ القرار. كذلك الأمر بالنسبة للمبادئ الأساسية في الحياة والأحكام المسبقة. ولكن بإمكانها أن تؤدي الى شيء من الانغلاق على الذات باسم الفعالية وتنسينا بأن الإنسان هو كائن يوجد من خلال العلاقات ولا يمكنه تحقيق ذاته دون الآخر. وكما يقول أحدهم وهو على فراش الموت: لو أعطي لي أن أبداء بالحياة مجددا لركزت على الصداقة.
أول خطوة في التمييز بخصوص القرارات «اليومية» تكمن في أن أضع بين قوسين كل ما أعتبره على أنه يقين. قد يحدث طارئ ما يلزمني على القيام بذلك، ولكن في حالة التمييز لا بد من القيام بهذه المبادرة بحرية، إذا أردت أن أحقق تمييزا سليما.
فالسؤال إذن هو التالي: ما هو المقصود بالنسبة لي؟ لماذا أريد أن أتصرف بهذه الطريقة؟ لماذا أفضل هذا القرار عن غيره؟ هنا لابد من تدخل «التناوبية» أي عليَّ أن آخذ بعين الاعتبار البديل عن قراري إذ لا يمكنني أن أمارس الاختيار دون وجود عدد من الإمكانيات. بهذا المعنى نقول بأن كل اختيار هو أيضاً نفي لأنه في اللحظة التي أختار فيها شيء ما أتخلى عن شيء آخر. إذا لم أقبل هذا أو ذاك الالتزام أو المسؤولية أو العمل سيكون لدي الوقت الكافي واللازم لأكون مع أولادي. أن أكون بالقرب من هذا الإنسان المحتاج اليّ قد يمنعني من إتمام عملي والقيام بواجبي. فالتناوبية تخفف من أهمية الوسائل لتضعها في مكانها المناسب.
هذا الأمر يساعد أيضا في توضيح القصد أو الهدف بالمعنى الذي تكلمنا عنه. إنه «يتجاوز» الإمكانيات. إنه من مستوى «الأكثر». فالإنسان هو من مجال الأكثر، ولهذا السبب لا يكتفي أبداً يريد دائماً المزيد. وكلنا يعلم الى أي حد تستعمل الدعايات هذه الناحية: هذا المعجون يجعل أسنانك أكثر بياضا، هذا المنتج يعطيك متعة أكبر؛ الوقت الذي تربحه، نوعية العمل الذي تحققه الخ. هنا عليَّ أن أطرح على ذاتي السؤال: إذا قبلت هذه المسؤولية، أو هذا العمل فإلى أي «أكثر» سوف يقودني بالنسبة لمستقبلي؟ وبشكل خاص: هل هذا يجيب على رغبتي الأكثر عمقا ؟
فالإنسان هو كائن ذو رغبة. وكل حياتنا هي محاولة لتحقيق رغباتنا. وهذا الأمر يدفعنا للعمل ولأخذ القرارات: الرغبة في الحياة، في البقاء، في تجاوز ذاتنا الخ. وفي كل مرة نحقق هدف ما، نبحث عن آخر، نريد الذهاب الى أبعد. هذا يعني أنه وراء هذه الرغبات التي نسعى الى تحقيقها، تكمن رغبة واحدة أساسية، هي تحقيق الذات، أن أكون ذاتي، أن أكون فعلا إنسان بكل معنى الكلمة. هذه الرغبة الأساسية لا يمكن تحقيقها بالكامل وإلا ستكون النهاية.
فالتمييز يكمن إذن، أمام العديد من الإمكانيات الحقيقية، بأن نعي أولا ماهي رغبتنا العميقة والحقيقية، ما هو السبب الحقيقي لحياتنا، أو المعنى الحقيقي لها لكي نستطيع اختيار «الوسيلة المناسبة» ( الاختيار بين الزواج والبتولية، بين هذا الإنسان والآخر ليكون شريك أو شريكة المستقبل). هذه الرغبة العميقة تثير المخيلة من خلال الصور التي يجب الاختيار بينها. فهناك أولا الصور التي تنبع من «الهواميات»، نوع من المرايا التي تغلقنا في عالمنا الذاتي حيث «نرى ذاتنا في صدد التنفيذ». مثلا أرى أو أتخيّل ذاتي جيدا في هذه المسؤولية المعروضة عليّ، أو في موقف من يساعد الإنسان المحتاج الي الخ .
ولكن هناك صور أخرى رمزية، هذه الصور تخرجنا من ذواتنا وتدفعنا نحو الآخر من خلال رغبة تتعمق أكثر فأكثر. مثلا يمكن أن نرى ذاتنا في «العليقة المتقدة» أو نساعد الآخرين على التحرر ممّا يسلب لهم حريتهم الشخصية، أو في «عرس قانا الجليل» إذا أردنا أن نجمّل أعيادنا. تبقى الصورة الرمزية هي الصورة الحقيقية والتي لا تدفعنا الى التقليد، ولا تتركنا مرتاحين في إرضاءاتنا الشخصية، إنما تطرح علينا التساؤلات أو تضعنا موضع تساؤل، فتدفع بنا نحو علاقات جديدة، نحو «الأكثر»، تدفعنا الى الخروج من ذاتنا، وتجعلنا نعيش في بداية مستمرة .
فالاختيارات والقرارات اليومية تأخذ آنذاك معناها : إنها وسائل تسعى لتحقيق رغبتنا الحقيقية والعميقة. بعد اتخاذ القرار، لابد من مراقبة الذات، الشعور الداخلي العميق. فإذا كنت أعيش هذا القرار « بغصة قلب» أو بعد راحة، إذا كان هذا القرار يغلقني على ذاتي فهذا يعني أن هناك خطأ في القرار وأن التمييز لم يكن جيدا. وإذا كان العكس فهذا يعني أن التمييز كان ناجحاً وأنني اتخذت القرار المناسب. هذه الفترة بين اتخاذ القرار مع المراقبة الذاتية تسمى تثبيت القرار وهي في غاية الأهمية. في الحالات الأكثر أهمية، الاستعداد للتحدث عن القرار مع الآخرين، يعتبر مقياس مهم للغاية .
أما بالنسبة للقرارات المهمة والحاسمة كالزواج واختيار المهنة فالموضوع يختلف بعض الشيء ولكن بشكل مهم في نفس الوقت. بشكل عام يظهر الموضوع على النحو التالي : هناك غياب المراجع : لا أدري أين أنا من الأمور بشكل عام؛ وفي الوقت نفسه لديّ رغبة قوية وأريد الخروج من هذه الحالة، لا أريد البقاء على هذه الحالة. وأخيراً أشعر بعجز كبير في تبصر المستقبل، فأنا لا أعلم ماذا أفعل.
القاعدة الذهبية الأولى والتي قد تبدو سخيفة للكثيرين، ولكنها، بنظري مهمة جدا، هي الانطلاق من المبدأ بأن الحياة تُستَحق بأن تعاش. هذه القاعدة هي أساس الرغبة وبدون الرغبة لا يمكن اتخاذ أي قرار حقيقي وسليم. والقاعدة الثانية هي : أنا يعني أنا والآخر يعني الآخر، أي الحفاظ على الاختلاف حتى لا نقع في التقليد، ( علي أن أعي بأعماقي بأنني فريد وكل إنسان هو فريد ) وبرأي مشكلة المشاكل بالنسبة لنا هي التقليد ( تقليد الآخرين). إذن عليّ أن أميّز بين الأمور. لكي أختار، لكي أتخذ قرار عليّ أن أميّز بين الأمور المتعلقة بالحالة وبالقرار الذي عليّ اتخاذه. هذا يتطلب مني الاستعلام عن كل العناصر المتعلقة بالموضوع . وغالبا نقع في الفخ : كل الأمور لها نفس القيمة لأنها كلها لا قيمة لها. ونصل آنذاك الى الموقف التالي : هذا القرار جيد لأنه يعجبني وذاك القرار سيء لأنه لا يعجبني. فتكون القرارات التي أتخذها في هذه الحالة سريعة لا أساس لها.
ثانيا انطلاقا من التصنيف والأفضليات أقف لأخذ الوقت اللازم ثم أختار ما هو أفضل بالنسبة لي وهذا يتطلب مني شيئا من العزلة والعزلة عكس الانعزالية. العزلة ضرورية جدا لكي أستطيع أن أقيّم العناصر وأختار بينها. ماذا أُفضّل، ماذا أختار، وبأي شيء يلزمني هذا القرار؟ علي أن آخذ بعين الاعتبار شخصيتي، أفضلياتي، الأمور التي أرفضها وفي النهاية أقرر. أنا الذي يقرر في النهاية. أي اعتبر ذاتي كمصدر للقرار مقتنعا بأنني أملك القوة ومتطلبات الحرية والمسؤولية. فبين عدم الرغبة في الحصول على شيء والرغبة في الحصول على كل شيء الفارق بسيط جدا. آنذاك أختار وأقرر.
كل قرار يؤخذ، يؤخذ في لحظة معينة، هي لحظة الحاضر، اللحظة التي نحللها ونحلل عواملها وأوضاعها. ولكن عندما يتم القرار سوف يوجه المستقبل، فالمشاورة والتحليل يتطلبان الأخذ بعين الاعتبار هذا المستقبل. ولكن المشاورة والتحليل تتم في نفس الوقت انطلاقا من الماضي، هذا الماضي المرسّخ في الذاكرة، في اللاوعي. وهذا المحور، محور الماضي، الحاضر والمستقبل يجب أن يجتازه الوعي الإنساني قبل أن يأخذ القرار النهائي. والماضي غنيّ بالخبرات التي لها أهميتها في اتخاذ القرار الحالي.
ولكن كيف «ينخرط» هذا القرار أو هذا الاختيار ضمن الخط المشترك لتاريخي الشخصي؟ كل تاريخ شخصي له ترابطه المنطقي، تجانسه الخاص والذي يظهر من خلال مختلف الاختيارات والقرارات التي أخذت أثناء هذا التاريخ. وكل قرار أريد اتخاذه اليوم عليه أن يدخل ضمن هذا الترابط المنطقي، ضمن هذا الانسجام أو التجانس لتاريخي الشخصي وإلا لا يمكنه أن يكون قرارا سليما، لن يكون القرار الذي من خلاله أحقق ذاتي، أحقق هذه الرغبة العميقة الموجودة بداخلي.
علينا أن لا ننسى أمرا مهما بالنسبة لاتخاذ القرارات: وجود وأهمية الآخر. كل قرار مهما يكن يلمس الإنسان الآخر بطريقة أو بأخرى. بهذا المعنى نقول أن لاوجود لقرارات محض شخصية إن صح التعبير؛ لذلك عند اتخاذي للقرار عليّ أخذ هذه الناحية على محمل الجد. وإلا فقراري هو قرار أناني، نابع من انغلاقي على ذاتي وبالتالي هو قرار فاشل.
وفي النهاية أقول بأن لاوجود لقرار كليّ وكامل لأن العوامل اللاواعية موجودة، بالإضافة الى أنني لست حرا بشكل مطلق دون أن ننسى إمكانية عدم تحقيق ما أريد وبالشكل الذي أريد لأسباب متعددة ومتنوعة لا يمكننا الخوض بها هنا(مثلاً أريد التخصص في الخارج ولا أملك الموارد الماديّة الضرورية الخ). ومن جهة أخرى أقول بأن لاوجود لقرار يُتخذ لمرة واحدة، بمعنى أنه علي دائما إعادة إخاذ القرار على ضوء التطور الذي أعيشه على الصعيد الإنساني، والنفسي والاجتماعي.