يقال أن الإنسان وليد بيئته أو نتاج بيئته و المقصود به أن كل مجتمع يطبع نفسه على شخصية أفراده، حيث تتجسد في شخصية الأفراد ما يكون سائدا في المجتمع من دوافع و قيم و أساليب تفكير، فالأسيوي و الأمريكي و الأوروبي يميل إلى أن تكون معتقداته و نظم سلوكه تشابه نظرائه في المجتمع. فمن جهة يتأثر بالثقافة و المجتمع و التضاريس فهو إذن منتوج اجتماعي و من جهة أخرى تحكمه قيم بيئته الاجتماعية التي ترعرع فيها لكن عند انتقاله إلى بيئة اجتماعية مغايرة في القيم يتغير سلوكه و ممارسته بوعي كامل ليكون عنصرا اجتماعيا مقبولا فيها و ترتبط مقدرته على التأقلم بمستوى وعيه و عمره و مدى استعداده للتغير و الاكتساب من المجتمع الجديد فلا ننكر دور الفرد في تكوين سلوكياته و جعلها بالنمط الذي هو يختاره و يريده، فلكل منا صفات مكتسبة من البيئة يستطيع تغييرها أو تعديلها يقول (دوركايم): ''أن التقاليد تصبح قوية إذا بقى الإنسان في نفس المكان الذي تربى فيه و مع نفس الأشخاص الذي يعرفونه فيكون سلوكه متوافقا معهم و عند انتقاله إلى بيئة مغايرة يتغير سلوكه ليكون منسجما مع معارفه الجدد'' ، فالبيئة الاجتماعية بمختلف أنماطها و عواملها المباشرة و غير المباشرة لها تأثير في نمط التفكير و السلوك من أجل تكوين فرد قادر على العيش في النظام الاجتماعي، فهذه البيئة الاجتماعية أو الجغرافية تختلف عن غيرها في الخصائص نظرا للعوامل المشكلة لها، فالبيئة الصحراوية تختلف عن البيئة الساحلية أو الجبلية و البيئة الريفية تختلف عن الحضرية فعن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: ﴿من سكن البادية جفا﴾ ما يدل على أن أهل البادية أو البدو يمتازون بالجفاء عكس ساكني المدن الذين نجدهم ألطف أخلاقا من الأعراب لما بطباع الأعراب من جفاء أيضا المناطق الجبلية معروف عنها قسوة المناخ نجد سكانهم يتصفون بالذات القوية القادرة على الصبر و المقاومة و الاعتماد على النفس و غيرها أما سكان المدن نجدهم يميلون إلى الانفرادية و سرعة الانفعال و بالتالي ينتج عنها اختلاف العقليات (التصورات) نظرا لاختلاف البيئات.
بالرغم من تأثير البيئة على الأفراد إلا أن الدراسة أظهرت أنه لا يوجد تأثير كبير على تصورات الطلبة للمفاهيم، يمكن أن يعود ذلك إلى عدة أسباب نذكر منها النزوح الريفي و التغير الاجتماعي و غيرها...، التغير الذي جعل من الصعب التفريق بين الريف و الحضر لما يتوفر عليه الريف من مظاهر الحضر كالوسائل الاتصالية الحديثة من هاتف نقال و انترنت و أيضا من وسائل النقل الحديثة من سيارات و غيرها...
من خصائص البيئة الريفية أنها مكانا للنشاط الزراعي بأرضها و ثروتها الحيوانية، فحظائر الحيوانات و معاصر الزيوت و مطاحن القمح تشكل جزء من البناء الاقتصادي للريف ، أما البناء الاجتماعي فيقوم على العيش في وسط عشائري ((قبلي))، على أرض مارسوا فيها عملهم الزراعي على أساس تعاوني جماعي، دون أن يكون في داخل هذا النظام تحديد ظاهر لحقوق الأفراد في ملكيتها ، فالمجموعة العائلية هي بنية الإنتاج المركزية و العائلة هي آلية التنظيم الاجتماعي السائد، أما الزراعة المرتبطة وفق أنماط متنوعة بتربية المواشي و الأعمال الحرفية تعطي أهمية كبيرة و حاسمة لعلاقة الأفراد مع الأرض (عقارية كانت أو موروثة).
فالريف الجزائري الذي كان يمثل طابع الحياة الاجتماعية القائم على الاقتصاد الزراعي و تربية المواشي في مقابل المراكز الحضرية المحدودة السكان و العدد، أصبح الريف اليوم يتجه نحو الانكماش المتمثل في النزوح الريفي فقد أصبح ظاهرة تهدد ثروات الريف، كما تسمى الهجرة الريفية التي تكون نحو مراكز حضارية فهي تعتبر من أبرز مظاهر الهجرة الداخلية و الأكثر انتشارا في البلدان النامية و خاصة المستقلة حديثا، و ارتبطت هذه الهجرة ارتباطا وثيقا بالثورة الصناعية و التي تسببت في اختلال التوازن بين القرية و المدينة، أو بين الريف و الحضر، و من ثم أدت إلى تركز معظم النشاطات الصناعية و الخدمات الإدارية و الثقافية و الصحية و الضرورية في المدن الكبيرة على حساب الريف، الأمر الذي أدى بسكان الريف إلى الانتقال إلى المدن، أو إلى النزوح نحو المناطق الحضرية. و قد استعمل الباحث الانجليزي (جراهام) منذ سنة 1892 لفظ "الهجرة الريفية" و قصد به النزوح الريفي و ذلك بناء على اللفظ الانجليزي "RURAL-EXODUS" ذو المدلول الواسع و الذي يشمل الهجرة الداخلية و إهمال الأرياف، و الهجرة الريفية و ترك القرى و إخلاء الريف من السكان، مع ملاحظة أن النزوح الريفي يعني في الأساس: "الانتقال و السير العشوائي للجماعات الريفية نحو مصير غير مضمون" أي أنه يتمثل بشكل واضح في شدة الحراك الجغرافي للإنسان الريفي.
لكن هذا النزوح لا يمكن أن يكون مجرد تغيير لمنطقة الإقامة فقط، و إنما يصاحب هذا التغيير تغيير في المهنة، فالمهاجر الريفي عند نزوحه إلى المدينة يهمل الأرض أولا، ثم يتجه إلى ممارسة أنشطة في المدينة والتي غالبا لا تتطلب مهارة أو فنيات معينة ، لذا نجد الأسر النازحة من الريف إلى المدينة تجد صعوبات و تواجه مشاكل في التأقلم مع المحيط الجديد من حيث البناء و السلطة و الزواج و الإنجاب و الوظائف التقليدية للأسرة كالتربية و الضبط الاجتماعي و الدفء العاطفي لأفرادها، كما أثرت هذه الظاهرة على الأسرة النازحة من حيث حراك أفرادها في المجال الجغرافي فقد ينتشر أفرادها على أحياء متباعدة تحت تأثير العمل و السكن و التعليم أو في مدن مجاورة، و من ثم يتجه حجمها إلى التقلص بالرغم من محاولة أفرادها الحفاظ على طابعها التقليدي المتسم بروابط القرابة القوية، و يتمثل لنا في المناطق المتخلفة التي تحيط بالمدن الكبرى، خصوصا الأحياء القصديرية منها، حيث نجد الأسرة الممتدة من أصل ريفي و التي تبقى لفترة معينة محافظة على طابعها، و علاقاتها الأصلية، و لكنها لا تلبث أن تتجه لتأخذ النمط الفردي، و مما يدعم هذا الاتجاه الزواج من خارج الأسرة( غير جماعة القرابة) يضاف إلى ذلك ظروف السكن الضيق و التنقل الجغرافي بين أحياء المدينة، كما لا ننسى اختلاط مفهوم القيادة في الأسرة النازحة و هي القيم السائدة في المدينة يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة منها الطلاق فهو من أهم المشاكل التي تهدد بناء الأسرة، و الأسرة النازحة بشكل خاص - نظرا للوضع الذي لم تعهده كازدياد مطالب هذه الأسرة و غياب الأب لفترة أطول و عمل المرأة و استقلالها الاقتصادي-، أدى إلى تدهور العلاقة التقليدية للأسرة الريفية النازحة و ضعف روابطها.
إن النزوح الريفي كظاهرة لها مشكلات تمس أولا بالأسرة التي تعتبر النواة الأولى و ثانيا بما يحيط بها أي المحيط الخارجي لها، أدت إلى وجود نتائج مترتبة عنها و التي انعكست على الأسرة النازحة في نواحي الصحة و التعليم و انحراف الشباب و ارتفاع معدلات الطلاق و الجريمة، فلا شك بذلك أن الأسرة النازحة إلى المدينة و التي غالبا ما تسكن حي قصديري أو منزل قديم مع أسرى أخرى، كثيرا ما يتعرض أفرادها للأوبئة خصوصا بين أطفالها نظرا لضيق المكان و تكدس عدد من الأفراد فيه مع انعدام توفر المستلزمات الصحية كالمياه النقية و المجاري و دورة المياه، و تهوية السكن.
في ذات الوقت نجد الحياة التي يعيشها الأفراد داخل المجتمع الحضري لا تخلو أيضا من المشاكل التي تصاحب النمط المعيشي بصفة عامة فالحياة الحضرية التي تتسم بأنها غير الشخصية Impersonnel كما أنها تعمل على خلق الاغتراب أو العزلة الاجتماعية عند الأشخاص و المقصود بالحياة الحضرية Urbanisme تعني: "أسلوب أو نمط للحياة" أما التحضر فيعني: "التركيز السكاني"، و الاختلاف بينهما كبير لأن الأسلوب أو النمط أمر يتعلق بالسلوك اليومي في حين أن التركز هو نتيجة قرار شخص بالانتقال أو التحرك من منطقة إلى أخرى، حيث يرتبط أسلوب التحضر و الحضرية ارتباطا وثيقا بالمدينة التي عرفت بأنها: "مستوطنة بشرية و مستديمة نسبيا ذات حجم و كثافة سكانية كبيرة نوعا ما". فسكان المدن هم أول من مارسوا الحضرية كأسلوب حياة. غير أن هذا الارتباط لا يعد ارتباط مطلقا، ففي كثير من الدول الغربية اختار كثير من سكان الريف الحضرية كأسلوب حياة دون أن ينتقلوا للإقامة في المدن و يساعد ذلك على ذلك سهولة الاتصال بين القرية و المدينة و الغزو الثقافي الذي أصبحت تتعرض له المناطق الريفية من قبل الثقافة السائدة في المدينة بسبب انتشار وسائل الإعلام المختلفة التي تسيطر عليها المدينة.
يمكن اعتبار المحرك الأساسي للهجرة الريفية الحضرية هو العامل الاقتصادي و إن معظم المهاجرين من الريف إلى المدن هم صغار السن الباحثين عن العمل و الذين لم يحصلوا على مستوى مناسب من التعليم، و هو ما يؤدي بالتالي إلى أن يفقد الريف عناصره الأكثر قدرة على تحمل العمل الزراعي المرهق و بالتالي تزداد مشاكل الريف تعقّدا عندما يصاب الإنتاج بالركود، يمكن القول أنه يمكن إيجاز الأسباب المبدئية للهجرة من الريف إلى الحضر ببساطة بما يعرف بعوامل الجذب و الطر" ، و نقصد بمنطقة الطرد كل العوامل التي تدفع القرويين دفعا نحو المدينة بفعل الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و غيرها التي تعاني منها القرية، أما منطقة الجذب فتشير إلى كل الظروف التي تجذب المهاجرين إلى المدينة بحثا عن فرص عمل أفضل و ظروف معيشية أرقى، و معنى ذلك أن عوامل الطرد كامنة في القرية و عوامل الجذب مكفوفة في المدينة، فالتوازن بين هذين النوعين من العوامل يتوقف على اعتبارات عديدة منها: مدى التفاوت الحضاري بين القرية و المدينة و الموقع الجغرافي للقرية و نوع المواصلات التي تربطها بالمدينة و معدل النمو الاقتصادي الحضري و ظروف العمل الزراعي و حجم الملكية الزراعية بالإضافة إلى بعض السمات السيكولوجية كالدافعية و الطموح و التحصيل الدراسي.
و من نتائج عوامل الطرد و الجذب "النمو الفوضوي المتزايد للحضر"، فهل نحن أمام ظاهرة تحضر أم تريّف ؟ مع العلم أن هذه العملية ترتبط إلى حد كبير بالأصل الريفي للسكان، إلى جانب سكان الحضر الذين هم بالأساس لا يتمتعون بتقاليد حضرية عريقة؛ فمن الناحية الديمغرافية_ الاجتماعية يمكن إرجاع هذا النمو الفوضوي المتزايد للحضر إلى: النمو الحضري السريع الذي بقي في تزايد مستمر بعد الاستقلال و نجد أيضا عوامل اقتصادية ناتجة عن الأوضاع الاقتصادية الريفية و التي تتمثل في عدم التوازن بين الموارد و السكان أيضا نجد عوامل سوسيولوجية تتمثل في عدم التنظيم الذي شهده الريف نتيجة لجذب المدن للطاقات الحيوية الريفية و عدم تكافؤ الفرص في الميدان الاجتماعي و الثقافي أما أبناء الأرياف في مقابل أبناء المدن، الأمر الذي دفع بأعداد من الريفيين خصوصا الشباب منهم الخروج عن المجتمع التقليدي (المغلق) في إطار التحضر و اكتساب قيم جديدة تتماشى و هذا المجتمع الجديد .
إضافة إلى الصورة الظاهرية للمدينة و ما يجد الفرد فيها من رفاهية و حياة مترفة في أغلب الأحيان نجد آثارا لظاهرة الهجرة الريفية الحضرية، كما أن من آثارها كذلك زيادة الوعي السياسي و غيره من الأمور التي لها علاقة بالحياة في المجتمع الحضري و من بين آثار الهجرة نجد:
- الآثار الاقتصادية: لعبت الهجرة من الأرياف إلى المدن دورا هاما في نمو الدخل و الثروة لدى الأشخاص المهاجرين كما تعمل على تخفيف البطالة، و لهذا نجد الهجرة من الأرياف إلى المدن الكبرى و إلى المشاريع التي أقامتها الدولة في مختلف المناطق الريفية عملت على توفير مناصب عمل مناسبة لهؤلاء المهاجرين و تخفيف الضغط على فرص العمل في المناطق التي كانوا فيها قبل الهجرة.
كما أن تكديس العمالة في الريف و ضعف الإنتاجية الزراعية في كثير من بلدان العالم الثالث يؤدي إلى قلة الطلب على الأيدي العاملة مما يدفع البعض للهجرة إلى المدن سعيا وراء فرص عمل أفضل و بالتالي حياة أكثر رفاهية، و في كثير من الأحيان يكون المهاجرون عبئا ثقيلا على المدن التي هاجروا إليها.
و من الظواهر السائدة في البيئات الريفية هجرة الرجال الذين تركوا أسرهم و قراهم لأسابيع أو لسنوات و لا يعودون لمنازلهم إلا لفترات قصيرة و بصورة عامة، تضطر زوجاتهم إلى رعاية المنازل و زراعة الأرض و العناية بالأطفال و الأقارب من كبار السن مما يزيد من واجبات النساء إضافة إلى الواجبات المنزلية الاعتيادية القيام بالأعمال التقليدية للرجال مما يؤدي إلى تراكم الأعمال و ازدياد المسؤوليات بالإخوة و الأب لمشاركة النساء و يفقدن بذلك استقلاليتهن.
- الآثار الاجتماعية:
يحمل النازحين أو المهاجرين من الأرياف إلى المدن الكثير من القيم الريفية معهم و إذا ما كانت هناك هوة ثقافية Cultural Gap بين المنطقة الطاردة و المنطقة المستقبلة فقد يحدث صراع بين الثقافتين، فالمهاجر في هذه الحالة يكون في وضع لا يسمح له بفرض ثقافته و لهذا يتبنى أنماط ثقافية حضرية بأسلوب فيه نوع من الحياء في كثير من الأحيان لتغيير نظرته و أفكاره بما يتماشى مع الحياة الجديدة و محاولته للتأقلم و مواصلة السير في حياته.
و مما لا شك فيه أن تغيير الوسط أو المحيط المعاش يؤدي بالفرد إلى اكتساب ثقافات جديدة أو محاولة التماشي معها في إطار نمط تفكيره و تربيته فتصوراته لمختلف المواضيع الحياتية يمكن أن تتغير كما يمكنه أن يحتفظ بها، لذا نجد أن كل فرد من أفراد الريف و الحضر ينظرون إلى فكرة ما بنظرة معينة إن لم تكن مختلفة كثيرا نجدها تمس بعض الجوانب.
.
بالرغم من تأثير البيئة على الأفراد إلا أن الدراسة أظهرت أنه لا يوجد تأثير كبير على تصورات الطلبة للمفاهيم، يمكن أن يعود ذلك إلى عدة أسباب نذكر منها النزوح الريفي و التغير الاجتماعي و غيرها...، التغير الذي جعل من الصعب التفريق بين الريف و الحضر لما يتوفر عليه الريف من مظاهر الحضر كالوسائل الاتصالية الحديثة من هاتف نقال و انترنت و أيضا من وسائل النقل الحديثة من سيارات و غيرها...
من خصائص البيئة الريفية أنها مكانا للنشاط الزراعي بأرضها و ثروتها الحيوانية، فحظائر الحيوانات و معاصر الزيوت و مطاحن القمح تشكل جزء من البناء الاقتصادي للريف ، أما البناء الاجتماعي فيقوم على العيش في وسط عشائري ((قبلي))، على أرض مارسوا فيها عملهم الزراعي على أساس تعاوني جماعي، دون أن يكون في داخل هذا النظام تحديد ظاهر لحقوق الأفراد في ملكيتها ، فالمجموعة العائلية هي بنية الإنتاج المركزية و العائلة هي آلية التنظيم الاجتماعي السائد، أما الزراعة المرتبطة وفق أنماط متنوعة بتربية المواشي و الأعمال الحرفية تعطي أهمية كبيرة و حاسمة لعلاقة الأفراد مع الأرض (عقارية كانت أو موروثة).
فالريف الجزائري الذي كان يمثل طابع الحياة الاجتماعية القائم على الاقتصاد الزراعي و تربية المواشي في مقابل المراكز الحضرية المحدودة السكان و العدد، أصبح الريف اليوم يتجه نحو الانكماش المتمثل في النزوح الريفي فقد أصبح ظاهرة تهدد ثروات الريف، كما تسمى الهجرة الريفية التي تكون نحو مراكز حضارية فهي تعتبر من أبرز مظاهر الهجرة الداخلية و الأكثر انتشارا في البلدان النامية و خاصة المستقلة حديثا، و ارتبطت هذه الهجرة ارتباطا وثيقا بالثورة الصناعية و التي تسببت في اختلال التوازن بين القرية و المدينة، أو بين الريف و الحضر، و من ثم أدت إلى تركز معظم النشاطات الصناعية و الخدمات الإدارية و الثقافية و الصحية و الضرورية في المدن الكبيرة على حساب الريف، الأمر الذي أدى بسكان الريف إلى الانتقال إلى المدن، أو إلى النزوح نحو المناطق الحضرية. و قد استعمل الباحث الانجليزي (جراهام) منذ سنة 1892 لفظ "الهجرة الريفية" و قصد به النزوح الريفي و ذلك بناء على اللفظ الانجليزي "RURAL-EXODUS" ذو المدلول الواسع و الذي يشمل الهجرة الداخلية و إهمال الأرياف، و الهجرة الريفية و ترك القرى و إخلاء الريف من السكان، مع ملاحظة أن النزوح الريفي يعني في الأساس: "الانتقال و السير العشوائي للجماعات الريفية نحو مصير غير مضمون" أي أنه يتمثل بشكل واضح في شدة الحراك الجغرافي للإنسان الريفي.
لكن هذا النزوح لا يمكن أن يكون مجرد تغيير لمنطقة الإقامة فقط، و إنما يصاحب هذا التغيير تغيير في المهنة، فالمهاجر الريفي عند نزوحه إلى المدينة يهمل الأرض أولا، ثم يتجه إلى ممارسة أنشطة في المدينة والتي غالبا لا تتطلب مهارة أو فنيات معينة ، لذا نجد الأسر النازحة من الريف إلى المدينة تجد صعوبات و تواجه مشاكل في التأقلم مع المحيط الجديد من حيث البناء و السلطة و الزواج و الإنجاب و الوظائف التقليدية للأسرة كالتربية و الضبط الاجتماعي و الدفء العاطفي لأفرادها، كما أثرت هذه الظاهرة على الأسرة النازحة من حيث حراك أفرادها في المجال الجغرافي فقد ينتشر أفرادها على أحياء متباعدة تحت تأثير العمل و السكن و التعليم أو في مدن مجاورة، و من ثم يتجه حجمها إلى التقلص بالرغم من محاولة أفرادها الحفاظ على طابعها التقليدي المتسم بروابط القرابة القوية، و يتمثل لنا في المناطق المتخلفة التي تحيط بالمدن الكبرى، خصوصا الأحياء القصديرية منها، حيث نجد الأسرة الممتدة من أصل ريفي و التي تبقى لفترة معينة محافظة على طابعها، و علاقاتها الأصلية، و لكنها لا تلبث أن تتجه لتأخذ النمط الفردي، و مما يدعم هذا الاتجاه الزواج من خارج الأسرة( غير جماعة القرابة) يضاف إلى ذلك ظروف السكن الضيق و التنقل الجغرافي بين أحياء المدينة، كما لا ننسى اختلاط مفهوم القيادة في الأسرة النازحة و هي القيم السائدة في المدينة يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة منها الطلاق فهو من أهم المشاكل التي تهدد بناء الأسرة، و الأسرة النازحة بشكل خاص - نظرا للوضع الذي لم تعهده كازدياد مطالب هذه الأسرة و غياب الأب لفترة أطول و عمل المرأة و استقلالها الاقتصادي-، أدى إلى تدهور العلاقة التقليدية للأسرة الريفية النازحة و ضعف روابطها.
إن النزوح الريفي كظاهرة لها مشكلات تمس أولا بالأسرة التي تعتبر النواة الأولى و ثانيا بما يحيط بها أي المحيط الخارجي لها، أدت إلى وجود نتائج مترتبة عنها و التي انعكست على الأسرة النازحة في نواحي الصحة و التعليم و انحراف الشباب و ارتفاع معدلات الطلاق و الجريمة، فلا شك بذلك أن الأسرة النازحة إلى المدينة و التي غالبا ما تسكن حي قصديري أو منزل قديم مع أسرى أخرى، كثيرا ما يتعرض أفرادها للأوبئة خصوصا بين أطفالها نظرا لضيق المكان و تكدس عدد من الأفراد فيه مع انعدام توفر المستلزمات الصحية كالمياه النقية و المجاري و دورة المياه، و تهوية السكن.
في ذات الوقت نجد الحياة التي يعيشها الأفراد داخل المجتمع الحضري لا تخلو أيضا من المشاكل التي تصاحب النمط المعيشي بصفة عامة فالحياة الحضرية التي تتسم بأنها غير الشخصية Impersonnel كما أنها تعمل على خلق الاغتراب أو العزلة الاجتماعية عند الأشخاص و المقصود بالحياة الحضرية Urbanisme تعني: "أسلوب أو نمط للحياة" أما التحضر فيعني: "التركيز السكاني"، و الاختلاف بينهما كبير لأن الأسلوب أو النمط أمر يتعلق بالسلوك اليومي في حين أن التركز هو نتيجة قرار شخص بالانتقال أو التحرك من منطقة إلى أخرى، حيث يرتبط أسلوب التحضر و الحضرية ارتباطا وثيقا بالمدينة التي عرفت بأنها: "مستوطنة بشرية و مستديمة نسبيا ذات حجم و كثافة سكانية كبيرة نوعا ما". فسكان المدن هم أول من مارسوا الحضرية كأسلوب حياة. غير أن هذا الارتباط لا يعد ارتباط مطلقا، ففي كثير من الدول الغربية اختار كثير من سكان الريف الحضرية كأسلوب حياة دون أن ينتقلوا للإقامة في المدن و يساعد ذلك على ذلك سهولة الاتصال بين القرية و المدينة و الغزو الثقافي الذي أصبحت تتعرض له المناطق الريفية من قبل الثقافة السائدة في المدينة بسبب انتشار وسائل الإعلام المختلفة التي تسيطر عليها المدينة.
يمكن اعتبار المحرك الأساسي للهجرة الريفية الحضرية هو العامل الاقتصادي و إن معظم المهاجرين من الريف إلى المدن هم صغار السن الباحثين عن العمل و الذين لم يحصلوا على مستوى مناسب من التعليم، و هو ما يؤدي بالتالي إلى أن يفقد الريف عناصره الأكثر قدرة على تحمل العمل الزراعي المرهق و بالتالي تزداد مشاكل الريف تعقّدا عندما يصاب الإنتاج بالركود، يمكن القول أنه يمكن إيجاز الأسباب المبدئية للهجرة من الريف إلى الحضر ببساطة بما يعرف بعوامل الجذب و الطر" ، و نقصد بمنطقة الطرد كل العوامل التي تدفع القرويين دفعا نحو المدينة بفعل الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و غيرها التي تعاني منها القرية، أما منطقة الجذب فتشير إلى كل الظروف التي تجذب المهاجرين إلى المدينة بحثا عن فرص عمل أفضل و ظروف معيشية أرقى، و معنى ذلك أن عوامل الطرد كامنة في القرية و عوامل الجذب مكفوفة في المدينة، فالتوازن بين هذين النوعين من العوامل يتوقف على اعتبارات عديدة منها: مدى التفاوت الحضاري بين القرية و المدينة و الموقع الجغرافي للقرية و نوع المواصلات التي تربطها بالمدينة و معدل النمو الاقتصادي الحضري و ظروف العمل الزراعي و حجم الملكية الزراعية بالإضافة إلى بعض السمات السيكولوجية كالدافعية و الطموح و التحصيل الدراسي.
و من نتائج عوامل الطرد و الجذب "النمو الفوضوي المتزايد للحضر"، فهل نحن أمام ظاهرة تحضر أم تريّف ؟ مع العلم أن هذه العملية ترتبط إلى حد كبير بالأصل الريفي للسكان، إلى جانب سكان الحضر الذين هم بالأساس لا يتمتعون بتقاليد حضرية عريقة؛ فمن الناحية الديمغرافية_ الاجتماعية يمكن إرجاع هذا النمو الفوضوي المتزايد للحضر إلى: النمو الحضري السريع الذي بقي في تزايد مستمر بعد الاستقلال و نجد أيضا عوامل اقتصادية ناتجة عن الأوضاع الاقتصادية الريفية و التي تتمثل في عدم التوازن بين الموارد و السكان أيضا نجد عوامل سوسيولوجية تتمثل في عدم التنظيم الذي شهده الريف نتيجة لجذب المدن للطاقات الحيوية الريفية و عدم تكافؤ الفرص في الميدان الاجتماعي و الثقافي أما أبناء الأرياف في مقابل أبناء المدن، الأمر الذي دفع بأعداد من الريفيين خصوصا الشباب منهم الخروج عن المجتمع التقليدي (المغلق) في إطار التحضر و اكتساب قيم جديدة تتماشى و هذا المجتمع الجديد .
إضافة إلى الصورة الظاهرية للمدينة و ما يجد الفرد فيها من رفاهية و حياة مترفة في أغلب الأحيان نجد آثارا لظاهرة الهجرة الريفية الحضرية، كما أن من آثارها كذلك زيادة الوعي السياسي و غيره من الأمور التي لها علاقة بالحياة في المجتمع الحضري و من بين آثار الهجرة نجد:
- الآثار الاقتصادية: لعبت الهجرة من الأرياف إلى المدن دورا هاما في نمو الدخل و الثروة لدى الأشخاص المهاجرين كما تعمل على تخفيف البطالة، و لهذا نجد الهجرة من الأرياف إلى المدن الكبرى و إلى المشاريع التي أقامتها الدولة في مختلف المناطق الريفية عملت على توفير مناصب عمل مناسبة لهؤلاء المهاجرين و تخفيف الضغط على فرص العمل في المناطق التي كانوا فيها قبل الهجرة.
كما أن تكديس العمالة في الريف و ضعف الإنتاجية الزراعية في كثير من بلدان العالم الثالث يؤدي إلى قلة الطلب على الأيدي العاملة مما يدفع البعض للهجرة إلى المدن سعيا وراء فرص عمل أفضل و بالتالي حياة أكثر رفاهية، و في كثير من الأحيان يكون المهاجرون عبئا ثقيلا على المدن التي هاجروا إليها.
و من الظواهر السائدة في البيئات الريفية هجرة الرجال الذين تركوا أسرهم و قراهم لأسابيع أو لسنوات و لا يعودون لمنازلهم إلا لفترات قصيرة و بصورة عامة، تضطر زوجاتهم إلى رعاية المنازل و زراعة الأرض و العناية بالأطفال و الأقارب من كبار السن مما يزيد من واجبات النساء إضافة إلى الواجبات المنزلية الاعتيادية القيام بالأعمال التقليدية للرجال مما يؤدي إلى تراكم الأعمال و ازدياد المسؤوليات بالإخوة و الأب لمشاركة النساء و يفقدن بذلك استقلاليتهن.
- الآثار الاجتماعية:
يحمل النازحين أو المهاجرين من الأرياف إلى المدن الكثير من القيم الريفية معهم و إذا ما كانت هناك هوة ثقافية Cultural Gap بين المنطقة الطاردة و المنطقة المستقبلة فقد يحدث صراع بين الثقافتين، فالمهاجر في هذه الحالة يكون في وضع لا يسمح له بفرض ثقافته و لهذا يتبنى أنماط ثقافية حضرية بأسلوب فيه نوع من الحياء في كثير من الأحيان لتغيير نظرته و أفكاره بما يتماشى مع الحياة الجديدة و محاولته للتأقلم و مواصلة السير في حياته.
و مما لا شك فيه أن تغيير الوسط أو المحيط المعاش يؤدي بالفرد إلى اكتساب ثقافات جديدة أو محاولة التماشي معها في إطار نمط تفكيره و تربيته فتصوراته لمختلف المواضيع الحياتية يمكن أن تتغير كما يمكنه أن يحتفظ بها، لذا نجد أن كل فرد من أفراد الريف و الحضر ينظرون إلى فكرة ما بنظرة معينة إن لم تكن مختلفة كثيرا نجدها تمس بعض الجوانب.
.